00:46 - 11/11/2016
ورقة من الطيرة/من مجموعة قصص أرض البرتقال الحزين/للكاتب الشهيد : غسان كنفاني
ورقة من طيرة حيفا
-ورقة من الطيرة-
" ماذا كنت اريد ان اقول ؟ نعم ، كنت اريد ان احكي قصة ذلك الزبون الذي يشتري مني كل مساء ثلاثة اقراص من العجوة , انه زبون من نوع خاص ، هذا النوع الذي يحس بعض الغبطة - امام اصحابه على الاقل - لان له صديقاً عجوزاً يبيع العجوة , انت تعرف ان ربحي بهذا البيع ليس كبيراً ولكنه ، والحمد الله ، كاف ، فأنا اشتري كل ثلاثة اقراص من العجوة بفرنكين اثنين , وابيع الواحد بفرنك ، ليس هذا فحسب ، بل ان مجموعة كثيرة من الزبائن تدفع فرنكا دون ان تأخذ قرصاً، وهذه هي المجموعة المفضلة عندي, نعم , كنت اريد ان احكي قصة ذلك الزبون ولكن ما الذي جعلي انسى؟ آه ! ذلك الشرطي ذو الوجه المجروح ، ان كثيراً من رجال الشرطة لهم نفوس طيبة ، ولكن هذا الشرطي لم يعجبني ابداً ! هل رايته كيف تصرف ؟ هل انا المذنب ؟ لقد كنت واقفاً هناك ، على المعطف عندما اقترب مني وقال وهو يهز طبق العجوة " يجب ان تذهب من هنا "
لقد كان شرطياً جديداً، هذا مؤكد , اذ ان بعض الشرطة الطيبين المسؤولين عن هذا الشارع , كانوا يسمحون لي ان أقف هناك . . عندما قال الشرطي ذلك ، حاولت ان اشرح له بعض الامور, لكنه رفع طبق العجوة الى رأسي وقال : " يجب ان تحمد الله اني لم اضعه على رأسك مقلوباً " ثم دفعي دفعة شديدة ، كأني يهودي ، ولكنني لست يهودياً ، وانت تعرف ان هذه اهانة كبيرة اذ اين كان هذا الابن الحلال يوم كنت احارب اليهود في الطيرة وفي حيفا؟ اين كان ؟ آه ! حذار ان تتصور انني ناقم على هذا الشرطي . .
الحمد لله على اي حال . الحمد لله اني لم اكن خائناً ولا جباناً في يوم من الايام . ولو كنت كذلك اذن لما كنت سامحت هذا الشرطي . . والذنب في هذا ليس ذنبه . . انه ذنب الذي اضاع فلسطين وحتم علينا حياة الكفاف هذه ، حتم علينا ان نعيش وكأننا خرجنا من فلسطين كي نبحث عن عمل ما فقط . . على كل حال انا اعرف ما الذي اضاع فلسطين . . كلام الجرائد لا ينفع يا بني ، فهم - اولئك الذي يكتبون في الجرائد - يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة ، ثم يكتبون عن فلسطين , وعن حرب فلسطين ، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها ، ولو سمعوا , اذن , لهربوا الى حيث لا ادري , يا بني ، فلسطين ضاعت لسبب بسيط جداً ، كانوا يريدون منا. نحن الجنود . ان نتصرف على طريقة واحدة ، ان ننهض اذا قالوا انهض وان ننام اذا قالوا نم وان نتحمس ساعة يريدون منا ان نتحمس , وان نهرب ساعة يريدوننا ان نهرب . . وهكذا الى ان وقعت المأساة ، وهم انفسهم لا يعرفون متى وقعت ! انهم لم يعرفوا قط كيف يقودون جنودهم . . كانوا يحسبون ان هؤلاء الجنود ضرب طريف من الاسلحة . . تحتاج الى حشو. . صاروا يحشونها بالاوامر المتناقضة ، كان الواحد منا يحارب اليهود فقط لانهم يريدونه ان يحارب اليهود! . .
لقد كان هنالك ايضاً بعض القادة المخلصين . . ولكن ماذا يستطيع الواحد منهم ان يفعل لوحده ؟ ماذا يستطيع ان يفعل ملاك , سقط فجأة الى جهنم , وعلقت جناحاه في براثن الشياطين ؟ لقد تيسر لي ان ادخل معركتين مع ابراهيم ابوديه , رحمه الله لم يكن يحارب الا وهو واقف على قدميه كآنه يلقي خطاباً , وكنا كلنا نندفع الى الامام كأننا ذاهبون الى عرس . . رحمه الله . . ان اعرف شيئاً كثيراً عن حياته ، لقد بدأ صغيراً مع عبد القادر الحسيني يأخذ الرسائل عبر الجبال الى الرفاق , ثم كبر ابراهيم , وحمل البارودة ، ونزل الى المعركة ، كان عبد القادر الحسيني يقول ان ابراهيم هو اشجع رجل رآه في حياته , كان ذكياً جداً . . وفي 1948 خاض مع رجاله معركة في " ميكور حاييم " وخرج منها بست عشرة رصاصة في ظهره كانت سبب شلله ، ثم امضى اربع سنوات بعدها يتعذب . . انت تستطيع ان تتصور كيف يكون شعور رجل مشلول امضى حياته يحارب واقفاً على قدميه . . لقد كان ينظر, فقط , ثم يبتسم . ويعود الى التفكير بخمس وعشرين ليرة يحتاجها يومياً ثمن حقن المورفين تهدىء من عذابه بعض الشيء . . . كان يتعذب . الى ان فكرت بعض الدول العربية في ان تساعده وبعد مشاورات قررت له راتباً شهرياً لمدى الحياة , وسافر مندوب عن هذه الدول الى بيروت ليزف البشرى . . . وعندما دخل الغرفة , كان ابراهيم ابوديه يحتضر, وكان ثلاثة رجال يقفون الى جانب سريره يبكونه . . وطلب ابراهيم منهم بصوت خفيض ان ينشدوا له نشيد موطني . . ووقف الرجال الثلاثة ينشدون له النشيد ، وهم يبكون , بينما كان هو يموت . رحمه الله . . لقد تعذب كثيراً ومن كان قرب سريره وهو يموت ؟ مسكين ! الم اقل لك انه لم يكن هناك من يهتم بالابطال ويحافظ عليهم ؟ لقد تعذب طويلاً. . وبينما هو يموت دخلت امرأة كبيرة في السن . . . وقدمت له باقة صغيرة من الزهر الاحمر . . ما اسمه ؟ . . " الشقيق " . . نعم " الشقيق ", يسمونه هناك في القرى " الحنون " وقالت له وهي توشك ان تبكي . . .
- هذا " الحنون " . . . من هناك .
وامسك ابراهيم الزهر. . وضمه بعنف الى صدره ، ثم ابتسم وهو يقول . . .
- ايها الجرح …
ومات وهو يشد على الزهر الذي دفن معه …..أرأيت كيف يموت الابطال دون ان يسمع بهم احد؟ أرأيت ؟
لم يكن هذا في القدس فقط . . بل في كل مكان . . خذ هذا المثال . . لقد كان في " هادار " حيفا مطحنة كبيرة تقتل الناس في شوارع الكرمل دون حساب ، لم يكن في حيفا كلها لغم كبير يكفي لنسف هذه المطحنة . . ثم تيسر، بما لا اعرف كيف , ان يذهب قائد حامية حيفا , يومذاك حمد الحنيطي إلى " سوريا " وان يرجع بلغم كبير، وعندما دخل من رأس الناقورة ، استطاعت امراة يهودية ان تعرف هذا السر، فأبلفت بواسطة اللاسلكي مستعمرة تقع بين عكا وحيفا . . اسمها ؟ لا اذكر. . المهم . . مر حمد من عكا في المساء مع رفاقه ومن بينهم " سرور برهم " هل سمعت عنه ؟ حسناً ، لقد وصلوا قرب المستعمرة قبل ان يهبط الظلام وهناك فاجأته قوة يهودية تريد ان تستولي على اللغم ، وطلبت منه ان يستسلم , ولكنه رفض. ودافع دفاعاً مجيداً مع رفاقه القلائل حتى تساقطوا من حوله واحداً اثر واحد . . هل يسلم اللغم وينقذ حياته ؟ طبعاً لا . . لقد, وقف حمد ورفع يديه , وعندما اقترب اليهود ليمسكوه،
اطلق رصاصة واحدة على اللغم الكبير. لقد قال الناس يومها انهم سمعوا انفجار اللغم من عكا . . وتطايرت اشلاء اليهود، وتمزع الشهيد الى درجة انهم لم يستطيعوا ان يجدوا اي شيء منه كي يدفنوه . .
ماذا كنت اريد ان اقول لك ؟ . . آه . . ان المسؤولين لم يحافظوا على ابطالهم . . ولم يكونوا على معرفة بأي أصول للمعارك . . لقد استشهد القائد مع رفاقه . انا لا أريد ان اناقشك في انه تصرف على شكل معقول اومتهور, ولكن اريد ان اسأل . . ماذا حدث لأهالي الشهداء ؟ والقيادة في حيفا كيف تصرفت حتى تملأ المكان الذي خلفه الشهداء ؟ الم تدب الفوضى في حيفا الى درجة مؤلمة ؟
ماذا اريد ان اقول ؟ آه , عن المسؤولين وعنا. . خذ ما حدث في " الريفانيري " هذا المصنع الكبير لتكرير النفط , هناك كان يشتفل العمال العرب واليهودء جنباً الى جنب , وكنت انا اشتغل في ذلك المصنع , وجرى حادث صفير نسيت معظم تفاصيله , لقد القى يهودي قنبلة على حارس عربي كان يقف على باب المصنع , فقتله ، وكان حزننا شديداً عندما سمعنا عن موت الحارس ورفاقه , فأغلقنا الباب الكبير للمصنع ثم استعملنا في قتل الصهاينة جميع الوسائل , لقد تقابلنا يومذاك وجها لوجه وكلانا مجرد من سلاحه , ولم يكن اي محل يتسع لسوى الرجولة فقط . . واستطعنا ان نتغلب عليهم ، لم يكن عندنا في الداخل , سلاح من اي نوع , فاستعمل بعضنا " التراكتور " واستعمل اكثرنا الرفش والفأس ذات الرأسين الطويلين ،وحدثت المعركة . لم نبق على عدو واحد كان معظمنا جديداً على هذا النوع من القتال , ولكن الجميع قاتلوا كأنهم رجل واحد, رامين الى الشيطان بمستقبل وظائفهم , غير آبهين البتة الى توسلات اليهود الذين كانوا يقولون اننا عمال اكلنا العيش والملح معاً . . ثم ماذا حدث بعد ذلك , بعد ان قتلنا عشرات اليهود؟ وبعد ان تركنا اعمالنا في " الريفانيري " واخذنا نتجول في الشوارع كالشحاذين كما اتجول الآن , هل تعتقد انهم اعطونا اسلحة وقالوا لنا : حاربوا معنا . . وموتوا معنا ؟ لقد اهملنا المسؤولون الى درجة انني سمعت انهم قالوا اننا جزارون ولسنا محاربين وهم حتماً لا يحتاجون الينا ، فلذلك علينا ان نذهب الى حيث نشاء كي نحارب كيف نشاء . . وضد من نشاء ! جزارون ! هكذا قالوا . . واي نوع من المحاربين يريدون ؟ محاربون يلبسون المعاطف البيضاء ويردون على الجرائم اليهودية بابتسامات عذاب ؟ ام يريدوننا ان نحارب بمحاضر جلسات جامعة الدول العربية ؟ .
اسمع ماذا جرى لهذا المحارب المهذب . . لقد كان سائقاً لسيارة عمومية ، وشاهد امرأة يهودية تعدو هاربة امام مجموعة من الاطفال كانوا يرجمونها بالحجارة . . كانت الحوادث في بدء توترها ، فما كان منه الا ان نهر الاطفال , وامسك المرأة من يدها ، وقادها الى حيث اوقف سيارته ، وذهب بها الى اهلها في تل ابيب , هل تعرف ماذا حدث هناك ؟ لقد سرقوا سيارته ، وقتلوه . مزقوه ورموا بجثته مقابل جامع الشيخ حسن . . فكيف يريدوننا ان نحارب اناساً من ذلك النوع ؟ بالورود؟
هذا هو الذي اضاع فلسطين ، يا بني , هل تفهم من هذا انني اريد ان ترسل رسالة شكر الى كل جندي يصيد عدوه ؟ كلا . . كلا . . معاذ الله . . لكنني كنت اعني ان عليهم ان يتفقوا على شيء ما . . ان يقرروا كيف يتوجب عليهم ان يتصرفوا . . ان يحترموا شعور المحارب الذي يفقد رفاقه في كل معركة . . على أي حال انا لا أريد ان احدثك كثيراً عن المعارك , لقد كنت كل عمري اضحك على اولئك العجائز الذين لم يكونوا يجدون غير ذكريات قتالهم في السفر برلك يسمعوننا اياها , ولكن الذي اريد ان اقوله ، انني حاربت ، اكثر مما يستطيع الشخص الواحد ان يفعل , ولكن الخطأ لم يكن مني انا ، كان من فوق ، من هؤلاء الذين يقرأون ويكتبون ويرسمون خطوطاً ملتوية ينظرون اليها باهتمام . . اما انا. .فماذا استطيع ان افعل غير ان احمل بارودتي وان اهجم , وان انظر الى حيث يشير رئيسي ثم اركض في ذلك الاتجاه وسلاحي في يدي؟
المهم ان علينا ان لا ننسى ما حدث عندما نلتقي مرة اخرى. علينا ان نحارب اليهود كما يفعل محررو الجرائد اولئك في غرفهم يجدون كمية كبيرة من الذباب !
كم اثا ثرثار !
كنت اريد ان احكي لك عن ذلك الزبون الذي يشتري مني ثلاثة اقراص من العجوة دفعة واحدة كل مساء . . ولكن الحديث جرفني ، والذنب في هذا , هو ذنب ذلك الشرطي الذي طردني من مكاني المختار كأنه يطرد لصاً . .
لو اني حكيت لذلك الشرطي قصتي , وقلت له من انا، اذن لضحك ضحكاً متواصلاًء ولقلب الطبق على رأسي كما كان ينوي ان يفعل . لذلك فأنا لن اذهب لاطلب منه ان يحترمني . . فهذا شيء مضحك . . لكنني يومأ ما, سآتي من فلسطين ماشياً على قدمي، كما اتيت في المرة الاولى . وسأبحث عن الشرطي هذا ما استطعت , ثم سأدعوه لان يقضي شهراً كاملاً في طيرة حيفا على حسابي . . له الخيار في
ان يتنقل فيها كما يشاء , ويقف حيث يشاء . . .
-غسان كنفاني-
دمشق 1957
نبذة عن الكتاب
:مجموعة قصصية للكاتب غسان كنفاني تضمنت القصص التالية
أبعد من الحدود
الأفق وراء البوابة
السلاح المحرم
ورقة من الرملة
ورقة من الطيرة
ورقة من غزة
الأخضر والأحمر
أرض البرتقال الحزين
قتيل من الموصل
لا شيء
كعادة الكنفاني كان شغله الشاغل في تلك المجموعة هو الشخصية الفلسطينية
سواء كان خارج او داخل الارض المحتلة
تعد قصة أرض البرتقال الحزين العمود الفقري لهذه المجموعة حيث كانت ملتحمة بسيرة غسان كنفاني لكنها في نفس الوقت تؤرخ لمعاناة الفلسطيني المهجر بشكل عام استعمل فيها أساليب قصصية مستحدثة إذ استغل ضمير المخاطب عوض المتكلم للحديث عما شهده في طفولته وكانت شخصيته مجرد انعكاسا للأحداث وليس له اي فعل كما عبر عن موقفه من جيل أبيه المهزوم وقد حمل عبر رمز البرتقال كل ملامح الشخصية الفلسطينية
صدرت الطبعة الأولى في عام 1962
حمل المجموعة القصصية أرض البرتقال الحزين كاملة بالضغط على الصفحه 63