جولة في وادي النسناس بمدينة حيفا

blog post with image
جولة شيقة، لحي وادي النسناس، في حيفا، حيث سلمنا على حسن البحيري، ومن ثم صادفنا الشاعر نوح إبراهيم وتبادلنا معه أطراف الحديث عن المشحر جوز الثنتين، ثم عن أبطال سجن عكا، وفي الطريق هدأنا جوعنا من خبز "فرن أبو أنطون"، وهناك بجانب الفرن طل علينا الشاعر أحمد دحبور ودعانا لشرب الشاي في بيته ليسرد لنا قصص أمه عن حيفا، وعن بحر حيفا الذي كانت تجلبه خصيصا له وتنشره في المخيم، وفي الليل تقفل أمه البحر، وترسله في "الحنطور" إلى حيفا وعن جبل الكرمل الذي كان يمشي كل سنة سبعة أمتار
كان حديثا شيقا جميلا لم أرده أن ينتهي، ولكن كان علينا إكمال المشوار لنزور مطبعة "الاتحاد"، كان إميل حبيبي ينتظرنا ليخبرنا عن زنوبيا النورية الحسناء وما فعلته بحيفا، بعد حديث مثير لاحظنا أن المكان كان يعج بالناس لطباعة الجريدة، فلملمنا حقائبنا وودعناه وخرجنا، في نهاية الرحلة شربنا من مضخة ماء الحاج حسن بكير، ووقفنا في الوادي ساكتين ومتأملين في ما لو.. ماذا لو عاد هذا الزمن الجميل، لو استطاع اللاجئ أن يرجع إلى بيته، لو استطاعت الأم ترك البحر في مكانه ليسبح به أولادها متى يشاؤون، لو استطاع الكاتب أن ينهي قصته، ولو استطاع الحيفاوي أن يحيي تراثه الغني من جديد؟
محاولة صغيرة ولكن كبيرة بأهميتها قام بها زميلنا ومرشدنا المؤرخ د.جوني منصور، كانت نقطة انطلاق المسار من أعلى درج الوادي، عند طرف شارع "شبتاي ليفي"، هناك سمعنا شرحا مفصلا عن تاريخ الواد حيث استهل منصور: "تعرض الحي لقصف مدفعي مكثف أثناء حوادث عام النكبة، وقامت السلطات الإسرائيلية في عام 1948 بتجميع معظم السكان العرب المتبقين في هذا الحي، (بقي في حيفا من سكانها العرب حوالي 3000 نسمة من أصل 70,000 ). وشهد الحي منذ ذاك العام تحولات في مبناه الاجتماعي والوظيفي، إلى أن أصبح من أبرز معالم المدينة، ومن الأحياء التي شكلت المجتمع العربي الفلسطيني في حيفا ومنحته مميزات خاصة. يمتد شارع الواد من ملتقى شارعي اللنبي ( حي الزيتون) والجبل، قرب مطعم اسكندر، وينتهي عند الدرج المؤدي إلى شارع شبتاي ليفي. أما الشوارع المتفرعة منه والمحيطة به فهي الخوري، مار يوحنا، توفيق طوبي، صهيون، حداد، الحريري، الفارابي، الطغرائي، الأصفهاني، الجبل، عسقلان رشون، السلط، والراهبات الذي حولت اسمه البلدية حديثا لشارع 93"
عن تسمية الواد باسمة قال منصور:هناك اعتقادان شائعان، الأول هو أن أهل الحي آمنوا بوجود حيوان النسناس، وهذا الحيوان حسب مصادر عدة غير موجود، ويعتقد البعض أنه حيوان من فصيلة القردة أو حيوان زاحف سريع يختبئ في معظم الأوقات، إلا أن قاموس المنجد يشير إلى أن النسناس دابة وهمية.

والاعتقاد الثاني هو أنه ربما جاءت التسمية حسب اسم عائلة النسناس التي كانت تملك جزءا من أراضي الحي، وأحد أبناء هذه العائلة هو الدكتور فؤاد النسناس ويملك اليوم مستشفى توليد في بيروت".

بعد الشرح بدأنا نسير بشارع (الوادي) حيث شاهدنا على يسارنا بيوتا حجرية قديمة وجميلة بنيت من الحجر اليابس خالية من سكانها بادعاء سلطة بلديه حيفا أنها غير صالحة للسكن، وأنها تشكل خطرا على حياة الناس. لكن المفارقة انك تنظر إلى يمينك فترى بيوتا شبيهه لها وعمرها نفس العمر لم يعلن عنها أنها غير صالحة؟ لماذا لم ترمم حتى الآن؟ ربما هنا نفهم سياسة الترحيل أو التفريغ البطيء الذي تنتهجه البلدية تجاه سكان الحي العربي.

دخلنا زقاقا ملاصقا للبنايات المهجورة، وجلسنا على عتبة أدراج الزقاق ليكشف لنا المرشد أننا نجلس أمام بيت الشاعر حسن البحيري (عمارة رقم 52). قرآنا هناك قصيدة له تحت عنوان "حيفا تحت ضياء القمر" كتبت عام 1945 بخط يده
ولد حسن البحيري عام 1913 في حي الحليصة في حيفا، ثم انتقل للسكن في الواد حتى التهجير. وبسبب ظروف حياته الصعبة والقاسية لم يتسن له مواصلة تعليمه، فتعلم للصف الخامس الابتدائي. عمل كفراش بشركة القطار، ثم بدأ يطالع ويكتب. وعمل أيضا بتنظيم عبور ومرور سكك الحديد. في عام 1948 فجر عربات قطار فيها سلاح عن طريق تغيير وجهتها نحو المطاحن الكبرى بشارع الناصرة (بار يهودا اليوم). في جيل 24 طبع البحيري 4 دواوين شعر في القاهرة على نفقته الشخصية، وفي أحدها كتب المقدمة الشاعر أحمد رامي. والمدخول العائد علية من الدواوين كان ينفقه على الفقراء. في عام 48 هُجر مع عائلته إلى سوريا وسكن في مخيم اليرموك. يقال انه لم يتزوج من امرأة بل تزوج القضية الفلسطينية. توفي عام 1998

تابعنا سيرنا لبناية تحمل رقم 38، وفي إحدى شققها ولد الشاعر الشعبي نوح إبراهيم عام 1911، وكان قد تلقى تعليمة في المدرسة الإسلامية في حي وادي الصليب، وانضم إلى حركة عز الدين القسام الثورية في منتصف الثلاثينات، وتعرض للاعتقال عدة مرات إلى أن استشهد في عام 1938 في أراضي قرية طمرة في الجليل وقبر في طمرة. كان نوح إبراهيم يكتب قصائده ويلحنها ويغنيها ويسجلها على أسطوانات ويقوم بتوزيعها بنفسه وعلى نفقته الخاصة. ويدخر الدخل الذي يعود فيها للثورة الفلسطينية. قرأنا قصائد له منها "دبرها يا مستر دل" و"مشحر يا جوز الثنتين". ومن الجدير ذكره أن نوح إبراهيم هو من كتب ولحن وغنى قصيدة "من سجن عكا". ويقال أيضا أنه لم يتزوج بل تزوج بندقيته
تابعنا سيرنا ووصلنا إلى بناية رقم 30 وهي مكونة من طابق أرضي بشكل طولي، كانت فيها شقق سكنية وفرن "أبو انطون" أقدم بناية في الواد، عمر الفرن مئة عام حيث خدم أهل الحي لمد ثمانين عاما، وهو مغلق من حوالي عشرين عاما


روضة غنايم

احدث المقالات