06:56 - 19/12/2017
فراري (قصه باللهجه الطيراويه)
كان معي في الشادر شبابكان معي في الشادر شباب : اثنين من صفورية , وثلاثة من طيرة حيفا , وواحد من لوبية , وواحد من بيسان
فراري
(قصه باللهجه الطيراويه)
على البلاطات المُلْس تحت مزراب دار عمي أحمد عباس , وبالقرب من" تحت اللوزات" وعلى أمتار من " باب البوابة التي ببابين " والمفضية إلى حارة قريتي , كم كانت تطيب لنا القعدات المسائية الصيفية , نحن الحفاة المشرتحين أولاد الحارة التحتا , من ارتفاع النقطة في نيسان إلى سقوطها علينا على ظهور الحيطان بجانب مساطيح التين في تشارين
![](https://i.imgur.com/VsUgPJj.jpg)
كان عمي أحمد عباس ابن ثمانين عاماً , و كان بحكم قرب بيته الطيني يجلس إلينا كثيراً ويأنس بنا لما يلمسه فينا من حبّ له واحترام والكل يدعوه " عمي أبوحسن " . هكذا اقتضت الأخلاق في قريتنا أن نخاطب كبير السن يا عمي !فهذا عمي فلان , وهذا عمي علاّن
وعمي أحمد عباس هذا والمكنى ابا حسن ولده الوحيد خدم في عسكر تركيا أيام "السَّفَرْبَرْلِكْ "
قلت له ذات غروب , وبكل جدية :
هَهْ يا عمي يا بو حسن ! شو كانت رتبتك في الجيش يوم اللي كنت في العسكرية زمن الأتراك؟!
لم يسمعني جيدا , فأمال سمعه إلي وقال : أيش سالت ؟
سالتك : شو كانت رتبتك في الجيش أيام السفربرلك؟
رتبتي ؟! هه , وبضحكة ساخرة كنت قائد ألاي .. كنت دومان نفر.
دومان نفر؟! لقد دوت هذه الكلمة في قلبي كما يدوي الحجر إذا سقط في بئر عميقة فارغة , يستقر في قاعها بعض الماء والوحل
- وكم سنة خدمت؟
ثلاث سنين لا بنقصو ولا بزيدو
![](https://i.imgur.com/ooY170L.jpg)
ثلاث سنين وظلّيت دومان نفر ما أخذت ولا رتبة ؟!
لليش الكذب مثل ما رحت أجيت رحت دومان نفر رجعت دومان نفر تيتي تيتي ، وضحك ضحكة واسعة بوسع بيدر مختار القرية محمد سعيد الخطيب .
قلت : ثلاث سنين ، شو كنت طُبْجي والاّ أيش ؟!
وبعد لحظة أجاب باستهجان وسخرية .. قال : لاكنت خرامنجي ولا طبجي
كنت فَيَرْجي
وصمت لحظة , ثم أردف باعتزاز : كنت فَيَرْجي
كم أدهشتني كلمة " فيرجي " . وسألته : فيرجي ؟! أيش بتعني هاي الكلمة؟
فقال بكشرة : فيرجي بتعني فيرجي .. ألله لا يورجيك , وصمت ... زادت دهشتي . صرت أُزَحْلِف تجاهه على البلاطة قليلاً قليلاً , لأقترب منه ..لأكون بجانبه فأشرب كلماته شرباً كما يشرب هو دخان سيجارته من التبغ الهيشي بنهم شديد . ورحت أتامّل ساقيه الطويلتين , وشاربيه المعقوفتين , وشعره الأشيب , وعينيه العسليتين الواسعتين , وحاجبيه الكثيفين , وإني إذ أتذكّره اليوم أقول بأن قامته تليق برتبة قائد " نـمس "حاملة الطائرات الأمريكية .
ولما قلت له كَمّلْ! قال: قفشونا , وأخذونا من هون على عكا, ومن هناك ركبونا بببور السكة لحيفا , ومن حيفا للفولة والعفولة, ومن الفولة والعفولة لبيسان وقطعنا الشريعة لدرعا , للشام , لرياق , لحمص , لحماة ,لحلب. وفي حلب قالوا لنا: هون انزلوا ! ونزلنا بيّاتين .. وبلا طول سيرة , إن كان السمك في البحر نام , عمّك أبو حسن ليلتها نام وطول الليل وأنا أعتّب عتابا فراقياتأو
وصلت بــلاد جدّي ما وصلها
عـرب ودروز والدولـه تصلها
سلامـاتي إلى إمـــي تصلهـا
على جنح الحمـام قبل الغيـاب
![](https://i.imgur.com/1DiL4QN.jpg)
وكان معي في الشادر شباب : اثنين من صفورية , وثلاثة من طيرة حيفا , وواحد من لوبية , وواحد من بيسان
وفي الليل والدنيا عتمة , مِد إصبعك ما بتشوفو , ولا حِس ولا نِس ... لكن سمعنا طول الليل إشي بهدر هدر , مثل ما تقول جمل وهايج !! شو هاذ يا جماعة ؟! وسالت اللي معي : شو هاللي بهدر ياجماعة ؟! ولا واحد من هالرفق جاوبني , الكل مش عارف ! وبالأخير تصبح عَ خير طلع الصبح, قمت طلعت من الشادر , واطّلّعت لبعيد .. والا مثل جبل عالي ونهر مثل مزراب وبشقع من راس هالجبل من فوق لتحت ع الصخر في قاع خلة غميقة .. سالت راعي غنم هناك , شو هاذ يا خوي ؟! قال: هاذ نهر الفرا .. وسكت عمي أبو حسن.
إنني أعترف الآن أنّ وصف رحلة عمي أحمد عباس هذه كانت أول درس لي تلقيته في جغرافية بلاد الشام , وبالرغم من أننا سمعنا حكاية " السفربرلك " هذه منه أنا ولداتي على نفس هؤلاء الصخرات الملس مرات عديدة , إلا أنني كنت أشعر كلما حكاها مجددا بمتعة أكبر , وكأنني أسمعها منه لأول مرة , وأن " دومان نفر" و" فيرجي" , وكلمات مثل خستا وطوز وصو ويكمك وبرنجي وإكّنجي وبيشنجي وسواها من المفردات التركية الكثيرة , كنت أعرفها منه ومن أمثاله من الذين خدموا عسكرية في الجيش التركي أيام السفربرلك .
قلت له: يلا يا عمي وبعد حلب؟
وبعد حلب , أخذونا ع الاسكندرونة , ومنها لأضنة, ومنها لمرسين, لقونية, لاكشهير, لافيون قره حصار , لاسكيشهر , لأنقرة, لأزمير وردوا رجعونا لاسكيشهر , ومنها سفرونا لأديزاري , لأسكيدار تا وصلنا اصطنبول !! وفي اصطنبول يا أفندم سُليم قعَّدونا جمعتين راحات وصلينا في جامع السلطان سليم... وشفنا السلطان عبد الحميد سلطان البرّين والبحرين . بعدين ركّبونا في فرجيطة (فرقاطة ) وكان معنا أكراد وشركس وولاد عرب وقسّمونا : قسم للمدفعية ، قسم للمطبخ , وقسم للجبخانة , وقسم لمخزن الفحم .. وأنا الوحيد أعطوني كريك وقالوا: بتوقف هون قدّام وجاق النار بجنب كوم الفحم , وكلما تشوف النار همدت بتسفى بالكريك وبتزت ع النار فحم !! وهاي كانت شغلتي عملتي , وإذا غابت عنك " فيرجي"
وهيك ظلّيت قدام بيت النار قايم قاعد, ليل نهار, تيجي القراوانة لعندي ، وإذا أكلت وإذا شربت وإذا قمت وإذا نمت وإذا بدون مؤاخذة بدّي أقضي غرض مثل القطّ أقضيه بكوم الفحم
وتشوف عمك أبو حسن عينيه حمر حمر مثل الجمر , ووجهو مثل وجه العبد الاسود , وإيديه مثل مقحار الطّبون لا غسل ولا قَشَل , قول: مرق شهر قول شهرين قول ثلاثة ..الهوا ما أشمّو ، الشمس ما أشوفها ، وكنت أعرف مثلاً إذا الدنيا كانت ليل أو نهار؟ .. لأ !! فيرجي !! انت غشيم ؟!
قلت له : طيب غَيِّرْ بَدِّلْ!
قال: منين أغيّر وابدّل ؟ مش بيدي .
قلت : إعمل إشي! شِيلْ حُطّ!! صيح ! قُولْ : جاي يا غلمان جاي ! أمان يا ربي أمان
قال : قلت مية مرة , ولكن سمعان مش هون
قلت له: طيّب شو عملت بعدين ؟
قال: جاييك بالحكي ، قلت : أهي مطوّلة , وأبلِّش بهالكريك , خذ عني جيتك , أسفى فحم , واعزق في بيت النار ، وظليت أعزق, والنار ملهلبة وتطرد من الدواخين نار وشرار , والقازانات تغلي والبخار الزايد يدشع لبرّا من القازانات , ويدفق على غرفة القبطان ووين ماكان ! , وساعات الضغط والحمّ نطّت عن الخط لحمر لحظة لحظتين القازانات بتفقع والفيرجيطة ع آخر ستيم , طارت فوق الموج !! قامت القيامة !! شو هاذا ؟! شو اللي صار ضرب زامور الخطر أجوا العسكر يركضوا نزلوا ع الدرج شافوني .. نزل القبطان .. أما شو أنا عينيّ مثل مشاهيب النار , والكريك بإيدي .. مستقتل , واللي علقان هي إمو , رايح اخمع راسو بالكريك وأرميه في النار!!
قال القبطان: أشك أوغلى أشك
قلت له : إنت حمار وابن ألف حمار .. صارت شواربه ترقص , قلتلو: قدم جاي !
قال : إنتو عرب جَنْكَلَه شغل دهْمَشِه! خيانات مِلاّت !
قلتلو: انتو تْراك جنكله ولاد جنكلة عرصات كرخنجيّه , وما خلّيتلو , ولا بقّيتلو... روح يا خنزير
قال : أدب سيس
![](https://i.imgur.com/noDEVYV.jpg)
قلتلو : أدبين سيس ، وهجمت عليه بالكريك , انهزم , وطلع يركض عَ السلم كل أربع درجات سوا
هه من بعد هدوة أجا الزابط , اما شو زابط إبن حلال!! وصار يحكي معي بالمليح ويراضيني .. وبالاخير قرّب عليّ , وباس راسي ... قلتلو : انا صرلي هون يا أفندم يمكن شهرين يمكن أكثر يمكن أقل الله أعلم , وأنا أزت فحم فِ هالوجاق , لا حدا طلّ عليّ , ولا حدا سألني منين إنت أو شو بتسوِّي ؟
قال الزابط: هاذ حرام , إنت إبن عرب مظلوم . أنا لازم بجيب لك دكيش
قلت: معلوم مظلوم , وألف مظلوم , أنا لازم أروح شهر راحات
قال الزابط: مفهوم إنت لازم بروح شهر راحات . وطبطب لي على كتافي ... وتشوف عمك ابو حسن سبع وفلت من قفص في جنينة حيوانات !
وأعطوني فدوس بركاندا , أسبوعين وتشوفني لابس هالبدلة واتفندل رايح جاي في شوارع اصطنبول , شمّام هوا , قطّاف ورد
قلته : بَسّ شمام هوا قطّاف ورد ؟
وضحك عمي أبو حسن ضحكة جشّاء وقال : شوف الملعون
قلت له: وبعدين شو صار ؟
قال وهو يهمّ بالنهوض مع سماعه أذان العشاء:
بعدين شمَّعت الخيط , وأجيتك فراري , وهاذاك وجه الضيف
وبعدين ؟!
لا بعدين لا قبلين قفشوني أخرى مرّة ورقعوني ثلاث سنين طباق الحجر.
هه انشاالله صرت أمباشي بكل هالمدّة؟
أمباشي وبعدين معك ؟ قلتلك كنت دومان نفر خفير كراكون
وقام وهو يكتّ مؤخّرة قنبازه المرقّع وقال مع حركة من قفا يده هكذا : وبالأخير راحت تركيا . وبعدها أجت الإنجليز وراحت ! وخلّيها بسّرك : ما بدوم غير وجه الكريم
مع تحيات تيسير ابن طيرة حيفا
طيرة حيفا - الطيرة نت