بحث في قرية طيرة حيفا المدمرة

blog post with image
بقلم : فؤاد عبد النور – المانيا …
أشهد أني معجبٌ بأهالي الطيرة لعدة أسباب, سأشرحها تدريجيا في هذا البحث عن الطيرة. يقال أن الطيرة رفضت اليد الممدودة إليهم من اليهود للعيش بسلام معهم, ودفعت الثمن غالياً. ولكن هذا لم يفتّ في عزيمتها, أثبتت أنها قرية عنيدة:- عنيدة في القتال, عنيدة في الهزيمة, وعنيدة في المطالبة بالعودة 
للوطن
الذي يؤكد هذا القول شهادة ” مريم محمد عباس زيدان” , من مواليد  الطيرة, سنة 1912. حديثها هذا نشر في صحيفة ” الأيام ” , رام لله, بتاريخ 13 5 2013, بقلم ” ضياء حسن البطل “, ابن حسن البطل الكاتب الفلسطيني المخضرم, وابن الطيرة كذلك:
” اليهود بعتوا  بواحد بقولوا له  “سبكتر”, مختار اليهود ومعه واحد كمان, واتنين كمان. رفعوا رايات بيضا ومشوا لأول باب ( في الطيرة). وهادا اللي اسمه سبكتر قال: يا أهل الطيرة  إحنا طول عمرنا اليهود عايشين إحنا والعرب سوا سوا  مبسوطين. البيض من الطيرة. القمح والشعير كله من الطيرة.  بينا وبينكم عيش وملح. خلونا نعيش سوا سوا, و بتشوفوا انتوا  مين عاد حكمه أحسن,  إحنا ولا الانكليز. بتجربوا أول. جربوا. إن لقيتوا حكمنا مش مليح حاربونا و منحاربكم. إن لقيتوا حكمنا مليح  بنعيش إحنا وياكم بسلام. قالوا ما بدنا. ودقّوا طبول الحرب.”
صعب أن تجد من يتقبل نشراً مثل  هذا في الجانب العربي. صعب أن ينقله أحدٌ علانية في الصحف! صعبٌ أن نعترف بما ارتكب من جانبنا من أخطاء. برأيي فعل حسن البطل خيرا,  بنشره مقال ابنه. على ما يظهر الولد ” طالع لأبوه!”
——————————–
استبسلت الطيرة في المقاومة. صمدت ثلاثة أشهر بعد سقوط حيفا. ولكن للأسباب المعروفة الآن,  لم ينفعها ذلك. سقطت أخيرا.
” وكانت الطيرة قد انفردت بالعمل, وأعلنت عزمها على التهيؤ لحماية أراضيها وممتلكاتها, ففرضت ضريبةً وطنيةً على الأملاك والأموال والأنفس, كما فرضت على كل عائلة منها أن تسلح على حسابها عددا من شبابها يتناسب مع كبر العائلة وصغرها, وأحاطت القرية بالحرس المسلح,  وحفرت الخنادق,  وأقامت المتاريس والجدران عند مداخل القرية,  وأوفدت بعثات من رجالها لمصر وسورية  لاستيراد الأسلحة. “[1]
يقول ” سمحا فلابان” أن التوقعات العربية  كانت أن  تبقى الجماهير الفلسطينية هادئة, وبذلك تسمح للمتطوعين من الدول العربية والأجانب القيام بعمليات المقاومة, ثم يختفي المتطوعون  بين السكان المسالمين!
لم يُحسب حسابٌ أن يقوم الصهاينة بعملية  تطهير عرقيٍّ,  وتنظيفٍ كاملٍ  لمناطق احتلالهم”. [2]  في شهادة  لِ “[3] جمعة غنام ” من طيرة الكرمل مذكورة في كتاب ” أسرى بلا حراب “, تحدث فيها عن محاكمات صورية جرت للمعتقلين من الطيرة الذين اتهموا بحمل السلاح ومقاومة المشروع الصهيوني, حيث جرى إعدام نسبةٍ  كبيرةٍ  منهم بدمٍ بارد, وبعد محاكمات صوريةٍ  قصيرة, وعن ذلك يقول: ” بعد أن فرغ اليهود من محاكمتنا بقينا حوالي 17 سجيناً من أصل 36, أي أعدم 19 منا ظلماً وعدواناً, دون محاكمةٍ عادلةٍ, ولا محامي دفاع,  ثم نقلنا بعد ذلك إلى سجن عتليت,  وهناك ضُربنا  حتى سال الدم من رؤوسنا “
يقول موقع ” عرب 48 ” في 8 5 2013 أنه على ما يبدو جرى اتفاقٌ بعد سقوط القرية مع الجيش الإسرائيلي, على أمورٍ معينة,  منها طرد حولي 400 من النساء والأطفال. فجلب الجيش شاحنات ونقلهم إلى رمانة , قضاء جنين.[4] واختار خمسة رجالٍ  أقوياء البنية  للعمل بالسخرة [5] في التنظيف. ولما انتهى عملهم, رماهم في قرية إبطن, في مزرعة قرمان.  ولكنهم رفضوا العمل هناك,  سجنوا لفترةٍ,  ثم أُطلق سراحهم, وبقوا في حيفا.
رجع بعض السكان إلى الطيرة,  فعاد الجيش وطردهم . لم يبق عائشاً في نفس القرية سوى ” هاجر الباش ” وأولادها, وبناتها الخمس.  تحدثت لوديع عواودة  بتاريخ 27 2 2013  ( محطة الجزيرة ) أنها من الذين رحّلهم الجيش إلى قرية رمانة  قرب جنين. لم تستطع الإقامة في جنين, فأكملت مع أولادها إلى الأردن. ولما أُطلق سراح زوجها من الأسر الإسرائيلي, استطاعت التسلل مع لأولادها إلى  الطيرة. وجدت بيتها المكون من ثلاث طوابق محتلاً  من مستوطنين  يهود, فسكنت مع زوجها  في براكيات العين . اضطرت العائلة إلى التنازل عن بعض أراضيها حتى يسمح لها بالبقاء مع زوجها وأولادها.
بقيت  دون هدمٍ  بناية المدرسة والجامع.  حوّل الجامع إلى كنيسٍ,  والبيت –  بيت المختار, حول إلى مركز شرطةٍ بعد توسيعه.
—————————-
من معالم الطيرة  البارزة  بستان الخياط في منطقة  ” كفار سمير”, في قلب وادي السياح. يمكن الوصول إليه من وادي الجمال, ومن حي الكبابير.  وقد بنى البستان الثري الحيفاوي عزيز الخياط في أوائل القرن العشرين,  حيث تُجسّد هيئته المعمارية علاقة الإنسان بالطبيعة, ويستوحي من ثقافة البساتين العربية والإسلامية. وكما هو مُتبعٌ  في مثل هذه الحدائق أُقيمت شلالات المياه,  والنوافير والبرك,  والتي تشكل جزءاً من شبكة القنوات التي تؤمن المياه إلى أقسام البستان المختلفة,  وتسقي شجرات الزينة والأشجار المثمرة من رمان, وتفاح, وتوت. استولت عليه بلدية حيفا من ثلاثين سنة, ويعاني الآن من الإهمال, وهو بحاجة للترميم  ليصبح موقعاً سياحياً هاماً, ومعلماً من معالم حيفا.
سُمّي شارعٌ على اسم الخياط,  يربط بين شارع وادي النسناس وشارع الملوك. هذا, وكان لعائلة الخياط أملاكٌ في حيفا, ومن أبرز شخصياتها عزيز وفكتور الخياط. وتمتلك العائلة شاطئ العزيزية,  نسبة إلى عزيز الخياط, وكان يشغل رتبة قنصل إسبانيا منذ فترة الانتداب. 
( اقتباس من موقع ” الطيرة.نت ” )
لفت نظريتيسير  المسؤول عن موقع ” الطيرة. نت “,  إلى الشاعر حسن البحيري, وحوّلني إلى ” بيت فلسطين للشعر ” فوجدت نفسي أسهر ليلةً,  لا بل عدة  ليالي,  متعجباً كيف فاتني معرفة  هذا الشاعر القوي التعبير, لدرجة الإبهار. أدعو كل قارئٍ يُحب الشعر, أو يُحب الوطن, أن ينهل من قصائد هذا الشاعر الذي غيـّـــبه الموت في الغربة.
ولد  حسن البحيري في حيفا 1921, وذاق شظف العيش, ونكّل به زوج أمه, إلا أنه شق طريقه,  وثقف نفسه ليصبح من أعظم شعراء فلسطين-المجهولين!
جميل أن تقرأ مقدمة ديوانه التي خطها بأنامله شاعرٌ آخر لا يُشق له غبار, هارون هاشم رشيد, الذي كتب: ” هذا الشاعر, من أي نبعٍ نهل؟ من أي وِردٍ رشف؟  في أي سماء حلّق؟ وبأي وادٍ من أودية الجنّ طاف؟ ”
أبيات من قصيدة ” عُمــيُ الملوك ” كتبت بعد سقوط اللد والرملة, في 12 تموز 48 لا بل بعد تسليمهما,  إبّـان استماتة أهلهما في الدفاع عنهما, والقصة يعرفها التاريخ .
القصيدة (المقدمة )  في ديوان البحيري:
دعِ اللاجئ وما فنّـد  يُذمّ بذاك أو يُحمد
ولا يُحزنك من قول اللوائم: جار أو أقصد
وقل لعبيد أعراشٍ بساعد غاصبٍ  تُسند
فليس لهم سوى الأعمى, وليس لهم سوى المقعد
أما فيكم ملوك العرب ذو هُدى  ولا  مُرشد
يخفّ لنصرة الإسلام لما صاح  واستنجد؟
ودوّى غوثه الملهوف يحمله الصدى الأسود!!
أو،  فلنقرأ  بعض ما جاء في قصيدة ” على جناح الخيال ” :
لبسوا بردة الخداع وأخفوا        عنك ناب السباع .. كلباً وذيبا
فشربت الأسى بكف  ذوي القربى  كؤوساً  تبدي  الزعاف حليبا
كيف  ناديـتهـم.. فهبوا.. ولبوا      وظننت المجيب منهم مجيبا
فحسبت الحميّ  فيهم حميا     وظننت المجيب فيهم مجيبا
وإذا  بهم   في دعوة  النصر حمـلان  تـردت إهابـها مقـلوبا
يا خِرافاً علــت عليـنا ملــوكاً  تلــــبس التاج  زائفا مُستريبا
وأخيرا:
أنا لي جذورٌ من صخوٍر في ترابي الأطهرِ
وذرى من الزيتون لامسها جبين  المشتري
ولي النشيد  الهادر الدفّاق عبـــر الأعصـــرِ
في مواكب للنصر مثلُ  حشوده لم تحشرِ
ويعيد  رجع هتافه : يا أمتي لن تقهري!
—————–
6 5 2015  فيس بوك . المحامي واكيم واكيم  يكتب  عن زهير بهلول, النائب الجديد في الكنيست, الفلسطيني المُهجر من الطيرة, ولكنه يدافع عن غيرها !!
” تطرّق برامج الاحزاب بهذا الشأن يكاد يكون سردا عاما وموجزا الى ابعد الحدود ويُختزل بالتطرق إلى عودة اللاجئين بشكل عام دون التمييز ولو باختيار المفردات ذات الصلة، بين اللاجئين المتواجدين في الشتات وبين المهجرين وهم لاجئي الداخل، الذين بقوا في الوطن ، وبالرغم من التعاطف الذي يبديه معظم أعضاء الكنيست العرب مع قضيّة اللاجئين والمهجرين وحقّهم بالعوده ومن خلال المشاركه في نشاطاتهم وعلى رأسها مسيرة العودة  التقليديه,  وكذلك من خلال الأدبيات في الصحف الحزبيه وكذلك تعاطف القواعد الحزبيه في القرى والمدن المختلفه مع المهجرين واللاجئين ، فإنّ الأمر يبدو مختلفا جدا في خطاب أعضاء الكنيست العرب ، في أروقة الكنيست وأمام وسائل الإعلام الرسمية الاسرائيلية  المنكشفه للرأي العام الإسرائيلي ..هنا لا يتمّ الحديث بتاتا عن حق عودة اللاجئين والمهجرين الى ديارهم ، على الرغم من انّ مطلب عودة المهجرين، وليس من باب التفضيل بتاتا ، يبدو، للوهلة الأولى،  منسجما مع الخطاب المدني اتجاه المؤسسة الرسمية الإسرائيليه وبالرغم من ذلك يبدو أعضاء الكنيست العرب كمن يتوجّسون ويحذرون من اللجوء إلى ذكر هذه الجزئيه في خطابهم ، درءاً لعدم استفزاز الرأي العام الإسرائيلي او المؤسسة الإسرائيلية  المنضوية  تحت مظلّة الإجماع الصهيوني الرافض لفكرة عودة اللاجئين إلى ديارهم ، يدفعهم إلى ذلك هاجس الخطر الديموغرافي.  وامّا بالنسبة للمهجرين ، فالتوجّس هو من مجرّد التأسيس لمرحلة جديدة  تسبق عودة اللاجئين من الشتات الى ديارهم الأصليه ..
هذا الواقع العبثي في التنكّر لأحد أهمّ الحقوق الأساسيه لأكثر من 300000 مهجّر وحوالي 70% من الشعب الفلسطيني ، في الخطاب الرسمي لأعضاء الكنيست العرب في أروقة الكنيست وأمام الرأي العام الإسرائيلي ووسائل إعلامه المرئي والمسموع والمكتوب ، تعكس اغتراب القيادة السياسية  التقليدية  لجماهيرنا العربية، برمّتها عن إحدى أهمّ القضايا التي تندرج تحت ما يسمّى بالثوابت الوطنية  الفلسطينية  والتي تحظى بالإجماع الوطني الفلسطيني ، لكل فئات شعبنا في كافّة أماكن تواجده ..
وعليه فإنّني لم أتفاجأ البتّة، عندما أصغيت لخطاب عضو الكنيست عن حزب المعسكر الصهيوني ، زهير بهلول، عندما لامس هذه الجزئية من خلال التطرّق لإقرت وبرعم ، لانّه يُدرك جيّدا ان “المهجرين “، في الوعي والإدراك والذاكرة  الإسرائيلية ، هم مهجري اقرث وبرعم فقط ,ولذلك فسيكون من السهل عرض الموضوع ليبدو للمستمع العربي قمّة في البطولة في التحدّي للمؤسسة الإسرائيلية ولكنه في الواقع محاباة ومجاراة وتهادنا إلى أقصى الحدود من خلال استخدام المفردات المقبولة على الأذن الإسرائيلية ..
” طبعا لا نقصد في هذه العجالة أن نستخفّ من أهميّة وخصوصيّة قضيتي إقرت وبرعم ، بل بهدف توضيح مدى اغتراب القيادة السياسية التقليدية من التعاطي مع قضيّة اللاجئين والمهجرين بحجمها الطبيعي ..سيكون مبتذلاً إلى أبعد الحدود أن لا يدرك الرأي العام الإسرائيلي أن عضو الكنيست زهير بهلول هو مهجّر وابن لمهجّر من طيرة حيفا المهجّرة  ومبتذلاً  أكثر أن لا يُجاهر بذلك أمام شعبه، بل والاستضلال بقضيّتي إقرث وبرعم بهدف استرضاء النفوس وعدم التغريد خارج سرب الإجماع القومي الصهيوني الرافض لحق عودة اللاجئين الى ديارهم ..
عندما نتطرّق لهذه الشريحة  من القيادة السياسية التقليدية، من خلال أعضاء الكنيست العرب ، فإنّنا لا نقصد البتّة الولوج في جزئية جدوى إو عدم جدوى “النضال البرلماني ” ولا مسألة من الأصدق والأصحّ ، المشاركة  أم المقاطعة  لانتخابات الكنيست ، فهذا ليس شأننا كمهجرين ، وقد قطعنا على نفسنا عهدا أن نكون حياديين في هذه المسألة
” .. ما نطمح اليه هو ارتقاء الخطاب الرسمي لقيادتنا الرسمية  والتقليدية  من خلال مركّباتها المختلفة، ليكون مطلب عودة اللاجئين والمهجرين إلى ديارهم الأصلية، على رأس سلّم اهتماماتها وفي صلب برامجها السياسية ، وبكل وضوح وقوّة  وبدون مواربة أو مهادنة,  وان لا يقتصر ذلك على التأييد العام وفقط من باب رفع العتب ..وأمّا عتبنا هنا،  فهو من صنف صابون القلوب، وهو، بالطبع، على قد الأمل وما أضيق عيشنا، لولا إصرارنا وحقّنا المقدّس وفُسحة الأمل “.
——————–
Top of Form
Bottom of Form
تعرفت على محمد ظاهر الطيراوي ( أبو بلال ) في برلين, وعمره 64 سنة¸ وهو معروفٌ  في برلين من مدةٍ طويلةٍ  كأحد نشطاء فتح,  والمسؤول عن ناديين رياضيين للأحداث العرب, لإيمانه بضرورة المحافظة على الشبيبة الفلسطينية في المهجر, وحمايتها من الضياع في المجتمع الألماني المتحرر بالنسبة للشرقي بشكلٍ عام. لحظات سعادته تكون عندما يلتقي أحداً من رعيته السابقين, ويشكره بحرارة لأنه قد أنقذه من كذا أو كذا!
في جلستين طويلتين معه أخذت فكرةً جيدةً عن حياة الفلسطيني في الغربة:  أولاً في لبنان, وثانياً في ألمانيا. لولا قرار توسيع وتجديد كتاب ” الجليل .. الأرض والإنسان ” لما كنت قد اختلطت بالفلسطينيين الموجودين في برلين, فمنطقة سكناي بعيدةٌ عن مناطق تواجدهم.  فهم في المهجر يحاولون البقاء قريبين من بعضهم البعض, ويساعدون مواطنيهم في الحصول على محلات تجاريةٍ أو أعمال. ولا ننسى بالطبع إمكانات وجود مساجد قريبةٍ للصلاة, وحضانات أو معاهد  لتعليم اللغة العربية.
تحدث ” أبو  بلال” عن حياته في مخيمات لبنان, ولم تكن تجاربه لتختلف عن التجارب التي أوردتها ” روزماري الصايغ ” في كتابها ” الكثير الكثير من الأعداء ” [6] أعداء الفلسطينيين بالطبع,  وآلامهم الكثيرة,  يذهب عدوٌ, ويأتي وراءه عدوٌ آخر¸ وهو يـُضحّي وـُيضحّي, ولا يرى نهايةً  لتضحياته, كل ذلك لأنه يرفض أن يتخلى عن أمل العودة  لوطنه فلسطين!
كان  والده من أتباع الحاج أمين الحسيني, فغادر حيفا والطيرة قبل سقوطهما. واجتمعت العائلة بعد ذلك في المخيمات, ورب العائلة لا يجد عملاً, وأولاده صغاراً.  الذي ستر عليهم كان أن عُرضت على الأب وظيفة حراسةٍ لبيت الحاج أمين,  فنقل العائلة إلى مخيمٍ في بيروت. رغم أنه لا يتذكر الكثير عن الحاج أمين,  فقد كانت نوبة حراسة الأب في الليل, إلا أن روزماري الصايغ  تنقل  من أحاديث المخيم عن أن اسم الحاج أمين كان لا يزال محترماً في أوساط البوليس اللبناني,  للوساطة أو التخليص من المشاكل. وليس هذا فقط, ولكن في الحصول على وظيفةٍ  في وكالة الغوث الدولية.  أو أن لا أحداً يستطيع السفر إلى السعودية للعمل أو الحج دون إمضاء الحاج أمين. على سلامته!  ولكن ابنة عمي التي قابلتها في بيت ابنتها المتزوجة في ألمانيا بعد ستين عامٍ من الفراق القهري,  ذكرت لي ما أزعجني. ذكرت أنه عندما اعتقل البوليس المصري بعد انقلاب 52 19 العسكري,  أخاها وأختها بتهمة الشيوعية, أخذت الأم الأرملة تبحث عمن يمكن له أن يساعدها في تخليصهما من السجن.  فنـُصحت بالذهاب إلى الحاج أمين عندما كان لاجئاً مثلها في مصر, وطلب مساعدته. رجعت الأم بخيبة أملٍ كبيرة,  وقالت لبقية العائلة:
” الحاج أمين أخذ يدور ويدور يسألني من فين أنا,  مين كان زوجي, شو كان يعمل, الخ.  حسّيت إنه بده يعرف أنا مسيحية ولاّ مسلمة. سألته بصراحة: يا حاج شو بدك تعرف, إذا كنا مسيحيين ولّا مسلمين؟ فهز رأسه, وقال نعم.  فقلت:  نحن مسيحيون. فاعتذر رأساً عن المساعدة,  وأنهى اللقاء!
قد تكون هذه هي مشكلة الحاج أمين الكبرى. تعصبه للإسلام والمسلمين, وسيطرة الفكر الشمولي عليه,  غلب على تعصبه للوطن. رأى الوطن فقط من خلال  منظورٍ إسلامي. هادن البريطانيين , وحتى الصهيونية عندما كانت لديه مصلحة. يقول عنه  سمحا فلابان ، وهو يساري من حزب المابام :[7]
” بالإضافة إلى الإرهاب, والاغتيال, والإخضاع, والتشهير, أقامت الهيئة العربية العليا علاقة مع الاستخبارات الصهيونية لمحاولة معرفة المتعاونين مع الصهيونية. الباحث الإسرائيلي  ” يورام نمرودي ” إعترف بأن هذا التعاون استمر ثلاث سنوات ” مع أسوأ أعدائنا “. أما من ناحية الجانب اليهودي فإن اعتقاد بن غوريون – الذي كان قد عبر عنه في وقت مبكر في السنة 1938 – فقد قال إن التوسع الصهيوني سيكون أفضل إن تركناه في يدي المتطرف المفتي, بدلاً من تركه في أيدي معارضةٍ معتدلة. كان شعاره: ” اعتمدوا على المفتي!” [8]
” اشترك المفتي في مظاهرات 1920, وحُكم عليه غيابيا ً بعشر سنوات. ولكن, وبالرغم من ذلك, عيّن بعد سنةٍ كمفتي للقدس! أمل المندوب السامي البريطاني أنه بالعفو عنه سيكون في خدمة العربة الانتدابية “.
… ” استمر الحاج أمين  في الصعود, وفي النفوذ, مستمداً نفوذه من الأموال التي أصبح يتصرف فيها, للسيطرة على أئمة المساجد, ومن مركزه كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى, إلى أن عزله الانتداب في السنة 1937. ”
” استغل الحاج أمين المشاعر الدينية, متهماً اليهود بالتخطيط للاستيلاء على المسجد الأقصى, وجمع التبرعات من الداخل والخارج, مما وضع بين يديه أموالاً طائلة “.
————–
تحدث  أبو بلال مثلا عن الإشراف المطلق من المكتب الثاني اللبناني على المخيمات, ومن بعده المكتب الثاني السوري.  ولم أر أن ذلك  يختلف  عن أعمال المخابرات الإسرائيلية, أو الأردنية, أو المصرية.  حادثة بسيطة ذكرها تُصور كيف كانت المعيشة في المخيمات:
” المكتب الثاني كان يفر طول الليل في شوارع المخيم الضيقة يتلصص على الناس. يتسمّعوا شو بحكوا. شو بسمعوا من إذاعات. إن سمعوا صوت العرب, بدقّـوا على جدران البيوت المبنية من الصفيح ويصرخوا: سكروا صوت العرب.. ما بدنا نسمع صوت العرب! كانوا يتلصصوا على المتزوجين, وهم مع نسوانهم. ( مع عدم المؤاخذة ).
” مرة لقاني أبو عبود, المسؤول عن المخيم من الشرطة, وهو جاي  قبالي. صرخ في: إمشي على طرف!
” فسألته: وين بدك أمشي؟  أعطيني باراشوت! فهتف:
-سكر بوزك ولا! إمشِ على جنب! ( هذا حتى يمشي هو على الجانب الناشف من الأزقة الترابية الموحلة ).
” نفس الشخص دخل محل بلياردو, وكنت أسمع جنب الراديو غنوة  لعبد الحليم, وقف الكل وأنا ما وقفت. ما عجبه. صرخ:  تعال إنت! وأمر المرافق بجرّي إلى مركز الشرطة في المخيم. كان عمري حوالي 16 سنة. أمر المرافق يجيب قطعة حبل, ويغرقها في سطل ماي, وقال لي: هذي رايحة توكل من جنابك! ”
ولكنه بعد هذه التمثياية استدعاه لمكتبه, وأخذ يتحدث معه بلطف:
” شوف يا محمد. إنت شاب طيب. مش راح أضربك إذا كنت بتساعدني!
وأخرج من الدرج عدة صور لناس لا  أعرفهم, وقال
–      ” هدول صحابي وأنا مش ملاقيهم. وأهلهم بفتشوا عليهم. شوفهم وقول لي مين تعرفه منهم؟”
حارب في الأردن مع فتح,  وغادرها مع من غادرها في أيلول الأسود 1970
ثم هاجر إلى ألمانيا بعد ضرب المخيمات. تعرّض لمضايقات كثيرة ٍ من الاستخبارات الألمانية, بعد قتل الرياضيين  الإسرائيليين في ميونيخ, وتعلم من هذه التجربة, ومن تجارب أخرى في المهجر, أن الفلسطيني الراغب في المعيشة في أوروبا عليه الالتزام بقوانين البلاد التي أضافته, وفتحت أمامه مجال بدء حياة ٍجديدة
يتمسك أبو بلال بموقعه في فتح, ويقول إن فتح هي المنظمة التي سترجعني إلى موطني. ولكنه في نفس الوقت, يعترف بكل صراحة:
” إلّلي دمرنا كان أموال السعودية, وغيرها من البترو دولار. طمرونا بالمال. صار الثائر الفلسطيني يفكر أكثر بتقدمه المادي. بالمقابل تراجع المد الثوري. بعد ال 72 بطّلنا ثورة بمعنى ثورة!
” لم تطوّر الثورة خطابها, مش بس ميثاقها.  صار في تبرير للأعمال الخطأ. فهمنا داخل فتح ضعف. الحس الوطني أفسده الفساد.
” لو حافظنا على المنظمات الشعبية للثورة الفلسطينية.. لو حافظنا على اللي بنيناه.. كان بقينا أكثر فعالية. ترهــّلنا. تابعت مفاوضات مدريد. مفاوضات نتجت عن ثورة شعبية من الداخل.. ولكن جرى امتطاؤها.. وخطفها! ”
————-
وجدت في رواية ” باب الشمس ”  لِ إلياس خوري, هذا الكاتب اللبناني الرائد, الذي نشأ وتفرهد على قصص اللاجئين الفلسطينيين الذين تدفقوا على وطنه فتعاطف معهم, وخلدهم في روايته الجميلة تلك, ولكنه لم يـُوفّر الثورة الفلسطينية  من الانتقاد, وإن كان ذلك الانتقاد قُدِّم بسلاسةٍ تكاد لا تلاحظها. كتب في الصفحة 409:
” صار يونس جزءاً من تلك الآلة الضخمة, ولم يعد ذلك الفدائي المشرد بين عين الحلوة في الجنوب, ومخيمي شاتيلا وبرج  البراجنة في بيروت. لكنه,  والحق يقال,  كان مختلفاً. لم تظهر عليه علامات الثراء التي ظهرت على أغلبية القياديين الفلسطينيين, بقي فلاحاً كما كان,  وكما يجب أن يكون. ”
تعزز هذا القول فقرة وردت في مذكرات أنيس صايغ, الصفحة 331, أنقلها دون تعليق:
” إني أكتب للتاريخ. لا شك أن الكثير من الفلسطينيين, ومن العرب الآخرين, أعطوا فلسطين أكثر مما أعطيت, وقدموا  تضحيات لا يسع المرء إلا أن ينحني أمامها احتراماً.  وعلى التاريخ أن يسجل أن هناك كثيرين أعطوا فلسطين دون مقابل. أعطوها أكثر مما أخذوا. ومن الظلم أن تضيع تضحيات فلسطينيين ( وعرب ) في خضم الفضائح التي يتناقل أخبارها الناس, عن فلسطينيين أخذوا من فلسطين الكثير ولم يعطوها إلا النزر اليسير, كسبوا من البلد ومن القضية والنضال أموالاً وعقارات ومراكز ووظائف, كل ذلك وقبل أن تتحرر فلسطين. ولست أدري ماذا سيحصل بعد التحرير. فالمسألة ليست توازناً بين ما أعطى المرء وبين ما نال, إنما هي مقارنةً بين أفرادٍ يعطون ويضحون دون مقابل, وبين قيادات تبني من عطاءات هؤلاء وتضحياتهم عروشاً لها, في شكل عمارات وحسابات مصرفية وشركات ومشاريع استثمارية, ومراكز وألقاب. ولا ريب أن التاريخ لن يرحم أبطال الاستغلال والفساد, حتى ولو نسي أبطال الجهاد والعطاء والبناء الحقـيـقـيـين الصامتين والراضين دوماً “.
————-
شخصيات ومراجع
ساهرة درباس. فيلم:  قطعة من الأرض
قرية ومذبحة دير ياسين
كتاب 
طيرة حيفا ما بين 1900 و 1948. د. محمد أحمد السلمان
طيرة حيفا. أحمد مصطفى الباش
وطن عصي على النسيان. ساهرة درباس
موقع طيرةحيفاالطيرةنت

احدث المقالات