النكبة ونكبتي/ساهرة درباس
ففجأة انتابني الفزع والإحساس في الخسارة والضياع ثم بالوحدة والغربة التي طالما أحس بها والدي كحاضر غائب ولاجئالنكبة ونكبتي/ساهرة درباس
رحل والدي في حيفا بتاريخ 14- 5- 2004 عشية ذكرى 56 عاما للنكبة وشعرت بنكبتي بعد النكبة,
ففجأة انتابني الفزع والإحساس في الخسارة والضياع ثم بالوحدة والغربة التي طالما أحس بها والدي كحاضر غائب ولاجئ في وطنه وبلده " طيرة حيفا".
عاش والدي في حيفا و"طيرة حيفا" وحيدا بعد عام النكبة 48 تتأجج النيران ولعا واشتياقا لأهله اللاجئين في المنفى.
فحتى أخر لحظة في حياته كان يتمنى أن يكون وسطهم, وفي كل مناسبة فرح اعتاد أن يغني عتابا مرددا:
يابا ناديت يا أهل المروه ويا ساكنين الدار
أنا بدار السجن ما لي مسعفين وأهل
يابا أنا بدار السجن ما لي مسعفين وأهل
قالوا جميع الناس يا صاح ما عندك أهل
رديت عندي أهل لكن الدولاب عني راح
رسم القدر لوالدي القدر أن يرحل وحيدا. فحتى في جنازته لم يستطع أحدا من أهلة الحصول على تصريح لحضور جنازته.
أدركت حينها الصراع والازدواجية الذي عاشها أبي والذي يعيشها كل لاجئ أينما كان في داخل الوطن أو في المنفى والشتات.
فما هو تعريف الوطن؟ هل هو أن تعيش غريبا ووحيدا بوطنك وفي زمن وحضارة ومجتمع مختلف حتى يكون الثمن أن يدعوا أولادك " العرب اليهود" ويحسدوك على أنك تعيش في بلدتك تشرب كل يوم من كأس الوحدة وصراع البقاء.أو أن تعيش في المنفى مع اللاجئين وبين اهلك في نفس العادات والتقاليد تتواسى مع أقربائك ذكريات الوطن وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم حيث أمنت مستقبل أولادك الثقافي والعائلي.
إنها لازدواجية بالمشاعر بلغت حدتها جيل النكبة والذي سيواجهها كل لاجئ أينما كان في الداخل أو في الشتات والمهجر فعند تطبيق حق العودة المقدس. سيواجه اللاجئ أمام خيارين أن يعيش لاجئ وسط أهلة وأقربائه وتقاليده وعاداته أو أن يرجع إلى وطنه ذات المعالم والقيم الاجتماعية والأخلاقية المختلفة ويكون غريبا كل همه صراع البقاء.
وكما ردد أبو سلوم صديق أبي في الجنازة: " إني أبكي عليه وعلى نفسي, فقد كتب لنا أن نعيش ونموت غريبين ووحيدين في بلدنا ووطننا بدون أهلنا وأقربائنا". وتمتم قائلا: " الله يلعن الوطن, لما الواحد يكون غريب ووحيد في بلده".
أما إحساسي بالضياع كان نتيجة رحيل والدي الذي لعب دور الأب والصديق وفلسطين الذاكرة الحية والشاهدة على أحداث جيل النكبة التي لم يتوقف عن سردها في كل مرة زارنا لاجئ طيراوي الأصل من داخل أو خارج البلاد
باحثا في ذاكرته وذهنه عن أهله. فتبدءا جولة سرد الذكريات من الصبرة التي كانت بجانب بيت أهل الزائر إلى
مقبرة البلد والمدرسة وجامع البلدة الذي تحول إلى كنيس ومن ثم للحجارة المبعثرة بترتيب لتشهد على البيوت الفلسطينية المهدمة. وفي أخر المطاف إلى النبعة وشجرة الجميز الشامخة والشاهدة على الأجيال العابرة.
وتنتهي الجولة بخيبة أمل وبكاء مع ضمة مرمية وزعتر وحفنة من التراب تفح منهم رائحة فلسطين وقرية " طيرة حيفا".
ولا أنسى ما سرد لي أبي( جمعة درباس)في أحدى الأمسيات عن رحلة نكبته قائلا:
بعد سقوط حيفا بثلاثة أشهر سقطت " "طيرة حيفا" في 10 رمضان 48.
قبل سقوطها واحتلالها صار في اجتماع باب " كم مسيلية" مع " الهغناه" منهم مختار أخوذا والضابط غريسثن الذي طلب من بعض شباب القرية مقابله مع مختار الطيرة عبداللة السلمان وقد أتى كمال النورية بالخبر, لكن المختار رفض قائلا:
لا أريد أن أرى اليهود ولا أتكلم معهم. فذهبت جماعة أخرى للاجتماع منهم الحج يوسف الراشد وأبو الحج حمد من حمولة أبو غيدا ( مدير شركة باصات الطيرة) وكرم الفهد والتقوا الطرفين.
وقال مختار أخوذا سبكترمان: نحن جيران ولا نريد أن نسفك دماء أخرى, نريد منكم أن تعترفوا بنا فتبقوا في البلد وأنا مسوؤل عما ينقصكم.
الحج يوسف لعن دينه وكذلك رفض الوفد, لكن كرم الفهد ( أخيه كان المختار بزمن تركيا) طلب مهلة من مختار أخوذا سبكترمان حتى يتم التشاور بين أهل البلد.
فأجاب: الآن الساعة التاسعة صباحا نمهلكم حتى الساعة الرابعة بعد الظهر, إذا ما أجبتم فستتلقون ما يأتيكم منا.
تنهد والدي واستمر في سرده: جواب من البلدة لم يكن ولكن وما أن بلغت الساعة الرابعة وخمس دقائق بدء القصف وإطلاق النيران على البلدة, حينها كنت مع صديقي هاني الذي بداْ يصيح: " راح الولد, راح الولد, أنقتل الولد" فقد خبأ ابنه في الجهة الشرقية للبلد بين أشجار الزيتون فهلعنا للمكان وللأسف كان أحساسة صحيح.
بعدها انسحبت مع أخي وزوجته وابنه وحفيده من الجهة الجنوبية للبلد التي تركوها مفتوحة ليهجروا الناس منها. ثم بدأنا برحلة نكبتنا فمشينا على الأقدام في الجبال كل الليل وأخي حمل طول الطريق حفيده محمد درباس على كتفه وقد بول على رقبة جده طول الطريق. وفي الفجر وصلنا قرية عين حوض ارتحنا ساعتين في الجامع ثم استمر ينا في المشي إلى قرية إجزم حيث استضافنا صديق أخي سليم عبد الرازق وأكلنا عنده وتبادلنا الحديث عن الأوضاع وأذكر أن سليم تفوه بكلام قائلا: لا يوجد عرب , لقد توجهنا للقيادة في نابلس لطلب المساعدة, فردوا علينا : " إذا تريدوا أكل اعملوا خطين بالكلس على البيادر فنرمي لكم من الطيارة. أما أذا كنتم تريدون ذخيرة فإعملوا ثلاثة خطوط على البيادر. أما جنود فلا نبعث لكم. ,أضاف قائلا أن القرى المتبقية وهم : أجزم وجبع وعين غزال وعين حوض أو يلبسوا برانيط بجانب الجيش الإسرائيلي أو يسلموا بلا قيد وشرط حتى يبقوا في بلدهم".
حينها كان معي بارود ة كندية جديدة مع ناظور وقد حاول سليم عن طريق أخي أن يبقيها عنده حتى نرجع على أساس أن هنالك إشاعة أن الجيش العراقي يصادر البارودة, إلا أني رفضت.
مع انة كثير من الشباب باعوا بارودة التنغن والبرن بخمس أو بخمسة عشرة ليرة وكان سعرها الحقيقي مئة ليرة مثل مصطفى فؤاد الحشار الذي باع بارودته الكندية بعشرة ليرات.
يتنهد أبي لبرهة ويستمر في سرده: في ساعات الغروب طلعنا من أجزم مشي على الأقدام في الجبال حتى وادي عاره حيث عبرنا الشارع الرئيسي الخضيرة عفولة وعند الفجر وصلنا قرية عاره واستضفنا صديقنا فياض أبو واصف استرحنا عنده وتناولنا الطعام ثم استقلينا المواصلات إلى نابلس. من هناك كلهم كملوا على اربد لكنني بقيت في فندق بنابلس وبعد أسبوع حضر زوج أختي درباس من اربد إلى نابلس باحثا عني ليأخذني إلى أمي. وقد هاجر
" طيرة حيفا" مع أختي وأولاده وأمي قبل سقوط مدينة حيفا عن طريق باب النهر إلى اربد بحراسة الجيش الأردني في سيارة استأجروها من الدالية وأخذوا معهم بعض الملابس والبطانيات ليتأووا بهم.
حين وجدني درباس قال لي : " أن أمي تبكي وتقول أني لو بقيت على قيد الحياة لكنت وصلت اربد."
فبعت بارودتي بخمسة وأربعون ليرة وفي الصباح استقلينا الباص إلى اربد وعندما وصلنا والتقيت بأمي, احتضنتني بلهفة بين ذراعيها كطفل صغير وراحت تقبلني ودموع الفرح والمعاناة تنهمر بغزارة من عيوننا.
توقف أبي للحظة ثم استمر بسرده قائلا: كانت أمي ساكنة في مخيم اربد مع أختي, فأخذتها وإستا جرت لنا بيتا بليرة فلسطيني, الله يقطع هذه السكتة, فقد كان السقف من قصب وطين, في الليل عندما نطفئ ضوء القنديل ينهمر البق من السقف علينا فأخذ البطانية وأهرب إلى مزارع البطيخ وأنام في الخارج.
لكن بعد شهر انتقلنا إلى الشام لأنه في اربد كانوا يوزعوا للاجئين طحين وسكر وزيت لكن في الشام كانوا يعطوا مال حسب عدد أنفار الأسرة. فأعطونا فرنك سوري بقينا يوم في المخيم بعدها انتقلنا لبلدة دمر وسكنا في خشة بلا سقف.
أنتصف الليل وأخذ منا التعب والنعاس وحضرنا أنفسنا للنوم وقبل أن أرقد في فراشي سألت والدي وقد رقد في تختة: أبي لم تشرح لي كيف كان شعورك حين التقيت بأمك؟
فأجابني: ماذا كان شعوري! كنت فرحا طبعا وانفعل وبدأت الدموع تنهمر من عينية بغزارة ثم غطى وجهه
بالشر شف.
بعد شهر رقد والدي إلى الأبد ورحل عن الدنيا ورقدت معه باقي رحلة النكبة إلى أبد الآبدين ولم يعد من يسرد علي مثل هذه الشهادات المهمة.